الدخل الثابت: الاستعداد للتباطؤ

الثلاثاء 13 نوفمبر 2018
ألثيا سبينوزي

بقلم ألثيا سبينوزي، المتخصصة في تداول المبيعات لدى ’ساكسو بنك

نهاية صيفٍ حافلٍ بالاضطرابات والأحداث المؤثرة

نودع حالياً فصل الصيف الذي ترافق مع سلسلةٍ من الاضطرابات والأحداث المؤثرة في الأسواق كافة. فقد تراجعت قيمة البيزو الأرجنتيني بنسبة 50٪ منذ بداية العام ولغالية اليوم، بالتوازي مع تعرّض الليرة التركية لخسائر بنسبة 38٪ مقابل الدولار الأمريكي، مما أدى إلى موجات بيع واسعة النطاق في السندات السياديّة لكلا البلدين. ورغم أن الأمور بدأت تستقر مجدداً، إلا أن الواقع لا يزال ينذر بكثيرٍ من المخاطر. حيث لايزال الغموض السياسي في تركيا يزعزع ثقة المستثمرين؛ كنا نعتقد بأن القرض الائتماني بقيمة 57.1 مليار دولار الذي منحه ’صندوق النقد الدولي‘ إلى الأرجنتين لن يساعد البلاد على مواجهة مشاكلها السياسية والاقتصادية.

من جهة ثانية، تصاعدت التوترات بين إيطاليا والاتحاد الأوروبي بخصوص ميزانية عام 2019. ويتساءل الكثيرون فيما إذا كان الحوار المتباين بين المفوضية الأوروبية وإيطاليا يدور في الوقت الراهن حول حجم العجز أو حول مشاعر الاستياء العميقة التي قد تدفع إيطاليا إلى اتخاذ إجراءات استثنائية ضد الاتحاد الأوروبي، بما قد يشمل إجراء استفتاءٍ للخروج من المجتمع الاقتصادي للاتحاد الأوروبي.

وأخيراً، نشهد في الولايات المتحدة تزايداً مستمراً في الثقة المفرطة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما جاء على شكل تصريحات لرئيسه جيروم باول، الذي يواصل تشديد الاقتصاد. ومع ذلك، ورغم ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، إلا أن هوامش الأسعار بين الشركات الأمريكية تواصل انخفاضها، مما يجعل الكثيرين يتساءلون فيما إذا كان ذلك يمثل الفقاعة القادمة التي من المفترض أن تنفجر.

من ناحية أخرى، بدأت حالة الهشاشة والتناقضات بالظهور في السوق المالية؛ ورغم أن فروق أسعار الائتمان ستواجه ضغوطاً كبيرة في الربع الأخير من العام الجاري، ولكننا نتوقع التعرّض لعمليات بيع حادّة إلى أن يتباطأ الاقتصاد الأمريكي، ويدخل تدريجياً في مرحلة ركود. وهذا من شأنه أن يمنح المستثمرين متسعاً من الوقت لتقييم المخاطر المحدقة بهم، وتهيئة أنفسهم لتراجع محتمل في عام 2019-2020. ولاتزال السوق الحالية توفر مزيداً من الفرص، ولاسيما في الجزء القصير من المنحنى، ونعتقد أنه باستطاعة المستثمرين الاستفادة من نوبات التقلب لدخول مجالات الأصول الثابتة بمستويات أفضل للأسعارٍ.

الأسواق الناشئة: صفقات الديون يجب أن تنتهي

منذ الأزمة المالية في عام 2008 وحتى اليوم، استفادت الأسواق الناشئة من انخفاض أسعار الفائدة وأنشطة المستثمرين المحرومين من العائدات، وذلك لإصدار المزيد من الديون بالعملات الصعبة، والتي تم تقييم معظمها بالدولار الأمريكي.

لسوء الحظ، مع بقاء الدولار الأمريكي قوياً واستمرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة، تسير الأسواق الناشئة على مسارٍ هش، كما أن حالة التوازن قد تتأثر بخطرين رئيسيين وهما، أولاً: مدفوعات أسعار الفائدة التي أصبحت بشكلٍ متزايد أكثر تعقيداً لأن قيمة العملات المحلية تواصل الانخفاض سريعاً مقابل الدولار الأمريكي؛ وثانياً: إعادة تمويل الديون الحالية، والتي أصبحت أكثر تكلفةً مع ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، وهو ما يؤثر بشكل خاص على البلدان التي تواجه آجال استحقاق قصيرة مثل الأرجنتين.

ونعتقد أن التقلبات التي عصفت بالأرجنتين وتركيا خلال الصيف الماضي لم تكن سوى البداية. فرغم أن موجات البيع تُعزى إلى سببين مختلفين كلياً (أزمة العملات في المقام الأول والعوائق السياسية مع الولايات المتحدة)، ولكن النتيجة كانت ثابتة ولم تتغيّر؛ وهو ما تجلّى في موجات بيع حادة للعملات المحلية، بالإضافة إلى الديون السيادية وديون الشركات الصادرة من قِبل تلك البلدان. وهذا يعني أن الأسواق الناشئة- وبصرف النظر عن موضع تطبيق الضغوط سواءً سياسياً أو اقتصادياً- قد وصلت إلى ذروتها، وهي ستسير في اتجاه واحد فقط وهو الهبوط.

لقد كانت هذه الأحداث مُقلقةً بما فيه الكفاية، ولكن الجانب الأكثر إثارةً للقلق هو أن السندات السيادية المقوّمة بالعملات الصعبة شهدت انتعاشاً قوياً، مع العلم أن العملات المحلية ارتفعت بوتيرة متواضعة ولكنها بقيت ضعيفة بشكل عام. ويعكس ذلك هشاشة الأوضاع الاقتصادية لهذه الدول. كما يؤكد على ثقة المستثمرين بأن نوبات التقلب- مثل تلك التي حدثت خلال فصل الصيف- تشكل حالاتٍ معزولة وقابلة للمعالجة، وتقدّم فرصاً مواتية للشراء. كما يضع المستثمرون ثقتهم مجدداً بالبنوك المركزية التي ظلت لسنوات تدعم أسعار الأصول عن طريق ميزانيات عمومية ضخمة.

من جهة ثانية، نعتقد أنه من الخطأ الافتراض بأن البيئة منخفضة التقلّبات خلال السنوات القليلة الماضية ستستمر إلى أجل غير مسمى، وأن الحالات التي شهدناها في الأرجنتين وتركيا تشير إلى اقترابنا من نهاية الدورة الاقتصادية المتأخرة؛ حيث نتوقّع حدوث مزيدٍ من التقلبات في أسواق الاقتصادات الناشئة.

وإن احتمال نشوب حربٍ تجارية سيؤدي إلى تفاقم هذه الأمور، حيث أن التحول لاتخاذ تدابير مناهضة للعولمة يمكن أن يفضي إلى تداعيات خطيرة تؤثر على نمو الأسواق الناشئة.

وفي ضوء جميع هذه الأسباب، سنلتزم بتوخي رؤيةٍ مشوبة بالحذر تجاه الأسواق الناشئة حتى نهاية العام.

البنك المركزي الأوروبي ’يُضيق الخناق‘ وسط احتدام الأزمة السياسية

بعد سنوات من تطبيق سياسات التيسير الكمّي، نجد ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، على استعداد اليوم لتضييق الخناق على الاقتصاد ببطء، وذلك انطلاقاً من ثقته بأن منطقة اليورو تتعافى، وبأن دعم البنك المركزي الأوروبي لم يعد ضرورياً. ومع ذلك، ورغم أن الأمور الاقتصادية تبدو أفضل من ذي قبل، ولكن المخاطر السياسية تنشأ نتيجة تطبيق نفس الاستراتيجية التي مكّنت منطقة الاتحاد الأوروبي من التعافي: ألا وهي سياسة التقشف.

وتمثل قوى الأحزاب الشعوبية في أوروبا معارضة متنامية لقواعد التقشف التي فرضتها المفوضية الأوروبية، وقد أصبح الأمر يشكّل أكبر تهديد لمنطقة اليورو منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008.

ونعتقد أن فترة الربع الأخير من العام ستشهد تعرّض أداء السندات السياديّة الأوروبيّة لمزيدٍ من المخاطر نتيجة مطالب الحكومة الإيطالية للمفوضية الأوروبية، والتي لن تقتصر على مناقشة ميزانية عام 2019 فحسب، بل وستترافق أيضاً مع تصاعدٍ للتوتّرات؛ حيث ستؤكد إيطاليا بوضوح على عدم استعدادها للالتزام بقواعد بروكسل.

ومن المفارقة أيضاً أن يلجأ السيد دراجي إلى خفض ميزانية البنك المركزي الأوروبي إلى النصف عندما تحتاج الأسواق المحيطيّة إلى دعم البنك، وهو ما سيجعل التحركات في أسواق السندات الأوروبية أكثر حدة وتضيّقاً. وحتى عندما يتم التوصل بنهاية المطاف إلى اتفاق بشأن الميزانية الإيطالية لعام 2019، فإن السندات السياديّة الإيطالية ستظل عُرضة للتقلّبات بالتوازي مع استمرار التوترات السياسيّة مع الاتحاد الأوروبي.

وإذا طرأ أي تخفيض في التصنيف الائتماني من جانب وكالة ’موديز‘ في نهاية شهر أكتوبر، فإن اتساع الهوامش بين السندات الحكومية الإيطالية والسندات الحكومية الألمانية قد يؤدي إلى عمليات بيع واسعة في أسهم الشركات الإيطالية والأسواق المحيطيّة، لاسيما اليونان وإسبانيا.

ورغم أن الحكومة الإيطالية ستمثل مشكلة يصعب التعامل معها، إلا أننا نعتقد بأن أي استفتاء لخروج إيطاليا من الاتحاد الأوروبي يعتبر أمراً غير واردٍ في المرحلة الراهنة. حيث يعتمد الاقتصاد الإيطالي بشكل كبير على اقتصاد منطقة اليورو، كما أن العملة الأوروبية الموحدة تعقّد الأمور المتعلقة بخروجٍ محتمل من الاتحاد. وإن ذلك يجعل من المستحيل على الأحزاب متابعة الخوض في هذا الموضوع دون يخسروا الجزء الأكبر من ناخبيهم الذين سيجدون أنفسهم في وضع أضعف مما كانوا عليه في الاتحاد الأوروبي.

وتفسّر هذه المعطيات أن عمليات البيع في الأطراف تشكل خطراً في المدى القصير ولكن تقدّم في الوقت ذاته فرصاً على المدى الطويل. ويمكن لهذه المساحة أن توفر فرصاً مميزة للمستثمرين المحرومين من العوائد، وذلك على ضوء انخفاض قيمة السندات عالية الجودة.

العوائد الأمريكية المرتفعة: حان الوقت للخروج من دائرة آجال الاستحقاق الطويلة

قد اتسعت هوامش العوائد الأمريكية المرتفعة بشكلٍ طفيف مقارنة مع أي مجال آخر يتمتع بتصنيف استثماري، وبالطبع، بوتيرة أقل من أسواق الاقتصادات الناشئة؛ الأمر الذي يجعل من أداء السندات مرتفعة المخاطر الأفضل في سوق الدخل الثابت منذ بداية العام.

ويمكن تفسير ذلك من خلال ثقة المستثمرين بالاقتصاد، بالإضافة إلى أن العوائد المرتفعة وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ عام 2010. ولكن هذا لا يشكّل سبباً جيداً بما يكفي للاعتماد على الأصول مرتفعة المخاطر، خصوصاً وأن أسعار الفائدة تواصل ارتفاعها، مع العلم أنه يصعب حالياً التكهّن إلى أي مدى سيواصل الاقتصاد الأمريكي المضي بقوّة إلى أن يدخل بمرحلة ركود. وكما الحال في الأسواق الناشئة، نعتقد بأن إعادة تمويل الديون تمثل أكبر المخاطر التي تواجه الشركات الضعيفة في الوقت الراهن.

ورغم اعتقادنا بأن المخاطر لن تظهر بشكلٍ فوري، ولكننا نرى بأن الوقت قد حان أمام المستثمرين لإعادة النظر في انكشافهم على سنداتهم ذات المخاطر المرتفعة.

ولاتزال المعدلات الحالية للعجز عن السداد أقل من 3٪ للائتمانات ذات العوائد المرتفعة، ولا ينبغي أن تتغير هذه التوقعات هذا العام أو في النصف الأول من العام المقبل، مما يعزز جاذبية سندات الشركات ذات العوائد المرتفعة على المدى القصير. وتعتبر السندات ذات آجال الاستحقاق الطويلة قصة مختلفة. ففي حين أن الفترة المتبقية من عام 2018 ستتميّز بموجة نمو قوية بفضل سياسات ترامب، يمكننا التوقع بأن ذلك الاتجاه سينتهي في وقتٍ ما من العام المقبل؛ إذ أن ارتفاع التضخم سيتطلّب من مجلس الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة بشكل أسرع، مما سيؤدي بالتالي إلى تباطؤ الاقتصاد الأمريكي.

من ناحية أخرى، نحن نلتزم برؤية سلبيّة إزاء السندات طويلة الأجل وذات التصنيف المنخفض، ونعتقد أن الربع الأخير من العام الجاري سيمثل فرصة مثالية للحد من الانكشاف على مثل هذه الأدوات، خصوصاً وأن مستويات التقييم ستبقى مدعومةً بالزخم الاقتصادي الحالي. ونرجّح أن تشهد بداية العام المقبل موجة تصحيحٍ في هذا القطاع (وفرصةً أكبر للعجز عن السداد في وقت لاحق من عام 2019)، وفقاً لأحد التقارير الصادرة مؤخراً عن وكالة ’موديز‘.

خاتمة

نتوقع أن تتواصل موجة التقلّبات في سوق الدخل الثابت خلال الربع الأخير من العام الجاري. ولكن بما أن الأساسيات الاقتصادية لاتزال قوية، جنباً إلى جنب مع التوجهات الإيجابية في السوق، يمكننا أن نتوقع حدوث ارتداد بعد العديد من نوبات التقلب. وهذا لا يقتضي بالضرورة توافر فرصٍ للدخول إلى مراكز تداول جديدة تنطوي على مخاطر مرتفعة. ومع انتقال الاقتصاد إلى المراحل النهائية من الدورة الاقتصادية المتأخرة، ستكون موجات التقلّب أمراً طبيعياً إلى أن تحدث عمليات بيع حادة. وهذا هو السبب الذي يؤكد على اعتقادنا بأن الوقت الحالي مواتٍ لجني السيولة من مراكز التداول ذات المخاطر المرتفعة، وإعادة تقييم استراتيجيّات التخصيص الحالية للأصول.

وعلى المدى الطويل، سننتهج رؤية سلبيّة بشأن سندات الأسواق الناشئة والسندات الأمريكية ذات المخاطر المرتفعة؛ فمع استمرار قوّة الدولار الأمريكي، سيواجه الاقتصاد مزيداً من التشديد، كما ستتباطأ مسيرة النمو بشكلٍ تدريجي، ولذلك ستجد الأسواق الناشئة الضعيفة نفسها أسيرةً لفخ السيولة.

وعلى المدى القصير، سنتبنّى أيضاً رؤية سلبية إزاء السندات السيادية للبلدان المحيطيّة، والتي ستبقى أيضاً تحت وطأة الضغوط، لاسيما مع تصاعد انعدام اليقين السياسي والاقتصادي في أوروبا. وستشكّل إيطاليا حافزاً لحدوث عمليات بيع واسعة في هذا السياق، حيث لا تزال التوترات عند مستويات تاريخية بين هذا البلد المتوسطي والاتحاد الأوروبي وعلى المدى الطويل، سنتبنّى توقعات إيجابية بخصوص مجموعة مختارة من البنوك والشركات المالية في الأسواق المحيطيّة، والتي تركز على التسعير والتداول بأسعارٍ أقل مقارنة بنظيراتها الأوروبية نتيجة انعدام الاستقرار السياسي حالياً.

وباختصار، نعتقد بأن فترة الربع الأخير من العام الجاري تشكّل لحظة مثالية للمستثمرين من أجل تقييم فيما إذا كانت استراتيجيتهم مستدامة وإيجابية على المدى المتوسط، بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات مناسبة تضمن لهم الانتقال بمرونة وسلاسة في الدورة الاقتصادية المتأخرة عندما تتحول ببطء إلى موجة ركود.

أخبار مرتبطة