التجربة اليابانية: انتعاش اقتصادي أم انزلاق نحو الهاوية؟

الثلاثاء 05 فبراير 2019
كاي فان بيترسن

بقلم: كاي فان بيترسن، رئيس استراتيجيات الاقتصاد الكلي لدى ’ساكسو بنك

يحمل كل يوم جديد أحداثاً تاريخية مختلفة. ومن وجهة نظر الأسواق المالية، قادنا مزيج السياسة النقدية الذي تمخّض عن الأزمة المالية العالمية في عام 2008 إلى قلب منطقة مجهولة الملامح في أكبر تجربة مالية شهدها العالم حتى اليوم. وخلال هذه الفترة، اتجهت البنوك المركزية الكبرى، ومن بينها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ونظرائه في منطقة اليورو وسويسرا والسويد والمملكة المتحدة، نحو إجراء عمليات شراء غير تقليدية للأصول بهدف الضغط على أسعار الفائدة ودفعها نحو مستويات منخفضة لم تعهدها من قبل.

وبالرغم من سخريتنا من بعض النتائج غير المقصودة لاستجابات السياسة النقدية على الأزمة المالية الكبرى (كما هي الحال مع شرط الدفع للحصول على قرض عقاري في الدنمارك)، تشير الحقائق إلى أن أسواق رأس المال، وتكلفة رأس المال، وطريقة عمل نظامنا المالي لم تكن أبداً بمثل هذا المستوى من الاصطناعية.
ارتفع الدين العالمي من حوالي 175 تريليون دولار ليتخطى 250 تريليون دولار، وقد لا يبدو الأمر كذلك نظراً لكون أسعار الفائدة لا تزال أدنى من مستوياتها قبل الأزمة. وبينما رأينا انتقال بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من التسهيلات الكمية إلى التشديد الكمي، وانطلاق العملية في البنك المركزي الأوروبي مع انتقال متوقع إلى التشديد الكمي بحلول منتصف عام 2019، كان بنك اليابان، بطريقة أو بأخرى، الأكثر تطرفاً بين البنوك المركزية الكبرى في العالم؛ حيث حافظ على سياسة أسعار فائدته عند -0.10% منذ الانتقال المفاجئ نحو أسعار الفائدة السلبية في مطلع 2016، وهو ما لم تقابله الأسواق بإيجابية أبداً. وتابع البنك شراء سندات حكومية يابانية، وأصبح اليوم أكبر مالك لها. كما أضاف عمليات شراء أسهم الصناديق المتداولة في البورصة على مدى السنوات القليلة الماضية - وهو مجال تجنّبته جميع البنوك المركزية تقريباً، مع استثناء ملحوظ من البنك الوطني السويسري، والذي يمتلك مليارات الدولارات من أسهم ’آبل‘ التي انخفضت قيمتها الآن أكثر من الثلث قياساً بأعلى مستوياتها العام الماضي.

والسؤال الرئيسي الذي يطرحه الآن العديد من متابعي الوضع في اليابان هو مدى النجاح/الفشل الذي حققته الدولة مع خطة آبي للإنعاش الاقتصادي - والتي شكل بنك اليابان واحداً من ركائزها؛ وما الذي يمكننا توقعه في عام 2019؟ سندرس هذا الموضوع من وجهتي نظر السوق المتفائلة والمتشائمة؛ وكما هي الحال عموماً، تكمن الحقيقة في موضع ما بينهما.

ولنبحث في هذين السيناريوهين المختلفين:

ويلات وتشاؤم، ومآزق تلوح في الأفق: اليابان، وبنكها المركزي وخطة آبي للإنعاش الاقتصادي، مهزلة وحسب
مرّت سبع سنوات منذ أن تولى رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي منصبه في عام 2012، حين أطلق خطته التي تلاشت شهرتها اليوم، وارتكزت على ’ثلاثة أسهم‘ لتحقيق الانتعاش الاقتصادي:

  • التوسّع المالي
  • التسهيلات النقدية
  • الإصلاح الهيكلي

وتمثلت الفكرة في تحفيز النمو المستدام لتعود الفائدة على المواطنين العاديين، بهدف إيقاظ اليابان من غيبوبتها وإخراجها من البيئة الانكماشية التي دامت عدة سنوات. ومع ذلك، لم تظهر تأثيرات هذه الخطة على السوق بالشكل المطلوب. وعجزت الأسهم الثلاثة بشكل عام عن تحقيق أهدافها المرجوّة - حيث تمت تجربة التسهيلات النقدية وتعديلها عدة مرات. وتجسدت النتيجة بميزانية عمومية لبنك اليابان بلغت قيمتها 5.1 تريليون دولار (أو 552 تريليون ين ياباني، باعتبار سعر صرف الدولار هو 108 ين)، وذلك حسب الموقع الإلكتروني للبنك في ديسمبر 2018. وتعادل هذه القيمة حوالي 100% من الاقتصاد الياباني المقدر بـ 5.1 تريليون دولار في عام 2018، وأكثر من 100% قياساً بأرقام الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017 حين بلغت 4.8 تريليون دولار.
ولتوضيح الأمر، لا بد وأن يصاب الجميع بالجنون عندما يفكرون بقيمة الموازنة العمومية لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وهي 4.5 تريليون دولار، ومع ذلك فهي لا تعادل ’سوى‘ 21% من قيمة الاقتصاد الأمريكي الذي يقدر بـ 21 تريليون دولار. وفيما تقدر هذه النسبة بـ 40% في منطقة اليورو والبنك المركزي الأوروبي، بينما نحن نتكلم عن نسبة 100% في اليابان! وبناء عليه، وفي عالم تسوده تجارب السياسة النقدية، فإن اليابان تسير بسرعة كبيرة جداً.

وتخطت النسبة الإجمالية لمعدل الديون الحكومية قياساً بالناتج المحلي الإجمالي في اليابان 250%، وهي حالة غير مستدامة بالطبع نظراً للنمو والظروف الديموغرافية التي تعيشها البلاد. وفي الربع الثالث، كانت أرقام الناتج المحلي الإجمالي لعام 2018 أسوأ من التوقعات عند -2.5% قياساً بالتوقعات -2.0%، والذي تضمّن مراجعة لمعدلات النمو في الربع الثاني من عام 2018 إلى 2.8% بعد الانكماش بنسبة -1.3% في الربع الأول. ولا يمكننا أبداً اعتبار ذلك نجاحاً اقتصادياً.

وبالرغم مما خاضته من تحسينات، ما زالت الحوكمة اليابانية للشركات سيئة. ولنتذكر الاحتيال وسوء الإدارة الصريحين في شركات مثل ’أوليمبوس‘ و’توشيبا‘، و’فوجي فيلم‘، و’تاكاتا‘. حيث، وبناء على معرفتي، لم يدخل أي مسؤول رفيع المستوى إلى السجن، حتى في حالة ’تاكاتا‘ حيث لقي العديد من الناس، ومن بينهم أمريكيون، مصرعهم نتيجة الوسائد الهوائية المعيبة التي تمت صناعتها في اليابان.
وفي الوقت نفسه، دخل كارلوس غصن، رجل الأعمال الأجنبي الذي يرتبط اسمه بشركتي ’رينو‘ و’نيسان‘، السجن بتهمة التهرب الضريبي. ولا شك أن ذلك يشكل استراتيجية سيئة البناء والتنفيذ لإعاقة التحالف بين ’نيسان‘ و’رينو‘ وصولاً للاندماج الكلي. لا يمكننا القول أن المسألتين مختلفتين، لأنهما ليسا كذلك؛ ويمكن أن نقرأ القصة الحقيقية في كتاب أو ربما نشاهدها في فيلم يوماً ما. خلاصة القول هي أن المشهد العام للشركات اليابانية بعيد جداً عن المنافسة العادلة. وما زالت حقوق المساهمين والحقوق الائتمانية متخلفة عن الركب.
وتظهر التركيبة السكانية في حالة سيئة، حيث نلاحظ بيع عدد أكبر من حفاضات البالغين قياساً بتلك التي تباع للأطفال. وخلال العام الماضي، تسارعت وتيرة انخفاض عدد سكان اليابان إلى حوالي 370 ألف نسمة ليصل عدد السكان إلى 126 مليون نسمة. وبحلول عام 2050، يتوقع أن يصل انخفاض عدد سكان اليابان إلى 108 مليون نسمة فقط، أيبعد 31 عاماً فقط. ويبلغ متوسط العمر في اليابان 47.3 سنة، قياساً بالمتوسط العالمي 30.4؛ وبالنسبة لمتوسط العمر في الاتحاد الأوروبي فإنه يبلغ 43 عاماً، بينما تشير الأرقام في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 38 عاماً، ومتوسط العمر في الفلبين هو حوالي 24 سنة. في الواقع، وفقاً لكتاب حقائق العالم الذي أصدرته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في عام 2017، لا يوجد سوى دولة واحدة متفوقة على اليابان من حيث متوسط عمر سكانها، وهي موناكو (53.1 عام) التي تعتبر وجهة استجمام لأصحاب المليارات.

وفي الوقت نفسه، تعتبر اليابان دولة تصدير تواجه ضربة مزدوجة مع تجارتها إلى الصين ومنطقة اليورو.حيث تتعرض المنطقتان لتباطؤ اقتصادي لم تظهر بوادر نهايته بعد، مما سيؤدي إلى ضعف الطلب على المنتجات اليابانية. وعلاوة على ذلك، ترتقي الصين على سلم سلسلة القيمة في الإنتاج، لاسيما في مجال السيارات، والآلات، والأتمتة، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي، مما يقلل من حصة وإيرادات اليابان في السوق في المستقبل، الذي كان سابقاً منطقة غير مزدحمة للشركات اليابانية. وعلاوة على ذلك، ما زالت اليابان بحاجة للتوصل إلى اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية بشأن سياراتها، ويمكن أن تُحدث آلية الرسوم الجمركية الأمريكية للصادرات اليابانية عواقب وخيمة على إدارة آبي، لاسيما بعد هذا النمو العالمي القوي في عام 2018.
وعلى الصعيد السياسي، لا توجد أي معارضة حقيقية للتحقق من حزب آبي الليبرالي الديمقراطي. وستخضع ضريبة الاستهلاك للمراجعة في أكتوبر 2019، وقد أحدثت في السابق عواقب وخيمة عند إقرارها في عام 2012.
ازدهار، وآمال وشمس مشرقة: خطة الإنعاش الاقتصادي تحقق النجاح، واليابان توفر فرصاً استثمارية مغرية تحقق خطة آبي للإنعاش الاقتصادي النجاح في هذا السيناريو، وتبتعد الأمور تماماً عن التقادم في بلاد الشمس المشرقة، وتظهر الدلائل على نمو الأجور بنسبة 2.0% على أساس سنوي قياساً بـ 1.2% المتوقعة. وبلغت معدلات البطالة أدنى مستوياتها منذ عقود عديدة في أوائل التسعينيات عند 2.4%، مع توجه لتوفير مزيد من فرص العمل بدوام كامل عبر الإنترنت مما سيزيد الضغط على ارتفاع التضخم والأجور.
وبالرغم من أن اليابان دخلت تصحيحاً ضعيفاً في الآونة الأخيرة من حيث البيانات الاقتصادية، إلا أن التضخم (آخره مع النسبة الأساسية 0.9%، مثل 1.0% في منطقة اليورو) ما زال إيجابياً، مما يشكل إنجازاً كبيراً للدولة التي مرّت بعقود طويلة من الانكماش. وعلاوة على ذلك، يتمتع آبي بعلاقات أقوى مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مما يجعل التوصل إلى اتفاق تجاري بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية أمراً أكثر سهولة قياساً بإبرام اتفاقية مماثلة بين أمريكا والصين، لاسيما وأن الملكية الفكرية والسرقة التقنية ليست مشكلة. ويمكن إطلاق محادثات التجارة الرسمية بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية في منتصف يناير. ويبدو ترامب بحاجة إلى فوز سهل على خلفية المشكلات التي يواجهها مع الإغلاق الحكومي، والشكوك التي تدور حول الاتفاقية بين أمريكا والصين فضلاً عن استمرار خسارته لمناصريه.

هل يمكننا اعتبار اليابان دولة من كارهي الأجانب؟ ليس بهذه السرعة. في الآونة الأخيرة، أقرّت الحكومة مشروع قانون يسمح لمزيد من المهاجرين بالدخول إلى البلاد، لأنها تدرك صعوبة حل المشكلات السكانية في اليابان بصورة عضوية، فضلاً عن أن العديد من الوظائف لا تزال شاغرة. وللمرة الأولى على الإطلاق، تمت الموافقة على مشروع قانون لمنح 250 ألف تأشيرة دخول لمدة خمس سنوات للعمال من غير ذوي الخبرة. ويشهد المجتمع الياباني ووجهة النظر الثقافية تغيرات متسارعة، وستعجز العديد من الشركات عن العمل دون الاستعانة بعمال أجانب.
وبالرغم من بعدها عن الاستدامة، يتم تقييم جميع الديون في اليابان، تقريباً، بالين الياباني، وتعود ملكيتها للحكومة أو شركات أو مواطنين يابانيين، مما سيسهل الإدارة المستقبلية لأي عملية إعادة هيكلة للديون أو تخلف عن السداد أو خصومات من القيمة السوقية للورقة المالية وما ينجم عن ذلك من مخاطر سوقية. إنه أمر مختلف تماماً عن إحدى دول السوق الناشئة التي يتم تقييم ديونها بالدولار الأمريكي، بينما تقيّم عائداتها وأرباحها بالعملة المحلية.
وتوفر الأسهم اليابانية فرصاً جذابة لا تقتصر على حقيقة انخفاض مؤشر ’نيكاي‘ بنسبة 20% تقريباً من أعلى قيمه 24,448 في أكتوبر 2018؛ حيث تمتلك العديد من الشركات قدراً كبيراً جداً من المال. وبشكل تقديري، تبلغ معدلات الأسعار/الأرباح بعد عام واحد نسبة متواضعة ×13.0 دون تعديل سعر السيولة المتاحة. ويقدر معدل السعر/التدفق النقدي بنحو ×8.0، قياساً بـ ×10.0 في مؤشر ’ستاندرد آند بورز 500‘، بينما يتيح معدل السعر/القيمة الدفترية القيمة ×1.4، قياساً بـ ×2.6 في المؤشر ذاته.

ولا يمكننا النظر بازدراء لعائد توزيعات الأرباح على المؤشر بنسبة 2.2% (العائد في مؤشر ’ستاندرد آند بورز 500‘ هو 2.4%)، لاسيما عندما تقترب عائدات السندات الحكومية اليابانية المستحقة بعد 10 سنوات من 0.0%، والتوجه السلبي للمكاسب على النهاية الأمامية للمنحنى.

وتترقب اليابان استضافة دورة الألعاب الأولمبية في عام 2020، مما سيمنح جانب الإنفاق المالي مزيداً من الدعم الجيد. تستمر قيادة آبي وحزبه الديمقراطي الليبرالي بترسيخ مكانتها، إذ تستمر فترة ولايته حتى عام 2021، مما سيعزز من مصداقية التغيير الهيكلي على المدى الطويل، حيث لا تواجه إدارته أي مخاطر سياسية، بخلاف الانتخابات التي واجهها القادة السياسيون في الهند هذا العام، وما ستواجهه الانتخابات الأمريكية في عام 2020.

وينبغي النظر بإيجابية إلى التركيبة السكانية في اليابان، فهي لا تشكل عاملاً سلبياً. فجراء تقلص قاعدتها السكانية وتفوق نسبة كبار السن فيها، أصبحت اليابان رائدة في مجال خدمات الرعاية الصحية والروبوتات. وتشكل هذه المسائل مزايا تنافسية تستطيع الدولة تصديرها إلى بقية أنحاء العالم. وعلى مدى العقود القادمة، ستواجه أوروبا ودول أخرى مثل الصين تحديات ديموغرافية بما في ذلك نقص العمال، والحاجة إلى خدمات الرعاية الصحية بكبار السن (على سبيل المثال، متوسط العمر في ألمانيا يبلغ 47.1 عاماً ليلامس نظيره في اليابان 47.3 عاماً). وبالتالي، من المتوقع أن تتحول خدمات الرعاية الصحية اليابانية، والروبوتات على وجه التحديد، إلى مواضيع استثمار طويلة لعدة عقود.

وفي قطاع الروبوتات، يمكن أن تستقطب شركات مثل ’فانوك كورب‘ [6954]، و’أومرون كورب‘ [6645]، و’نابتيسكو كورب‘ [6268] مزيداً من أبحاث المستثمرين واعتماد إجراءات التوافق مع متطلباتهم، لاسيما وقد تم بيع أسهم هذه الأسماء الثلاثة على مدار العام الماضي بأسعار مخفضة 50-60% من أعلى مستوياتها في يناير 2018.

أخبار مرتبطة