بقلم: ستين جاكوبسن، كبير الاقتصاديين والرئيس التنفيذي لشؤون المعلومات لدى ’ساكسو بنك‘
شهد المستثمرون خلال هذا العام العديد من المصاعب في الأسواق الناشئة، حيث رزحوا تحت وطأة العائدات الضعيفة والناجمة عن الظروف المعاكسة التي فرضتها سياسة التشدد النقدي التي انتهجها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، إلى جانب تنامي حالة انعدام اليقين العالمية المرتبطة بالمواجهة التجارية بين الولايات المتحدة والصين والتي أدت إلى بقاء الكثير من المستثمرين رهينة لتقلباتها.
وتتداول الأسواق الناشئة بخصومات غير مسبوقة على أصول الاقتصادات المتقدمة. وعلى صعيد الأرقام، فإن تقييمات أسهم الأسواق الناشئة تقل بمقدار 3 انحرافات معيارية عن مثيلاتها الأمريكية كما يبين الرسم البياني أدناه.
ونظراً لهذه التباينات الكبيرة في الأداء خلال الفترة حتى الربع الأخير من العام الحالي، ينشأ سؤال ينبغي الإجابة عليه ويتمثل فيما إذا كان ذلك يمثل "فخاً تقييمياً" أو واحداً من أضخم المؤشرات على عمليات شراء الأصول بالنسبة للأسواق الناشئة خلال فترة طويلة من الزمن.
وسواء كان الرسم البياني أعلاه يوضح حالة الأصول في الأسواق الناشئة أم لا، فإنه على الأقل يطرح علينا فكرة التقليل من شأن إمكانية انكشاف الأسهم الأمريكية، وذلك بصرف النظر عما إذا كنّا سنشهد حالة من الاستقرار أو الانهيار أو الانتعاش في الأسواق؛ في حين من المرجّح أن يصب متوسط الارتداد في صالح الأسواق الناشئة بصورة نسبية، كما يمكن أن يسهم ذلك في التخفيف من حالة التقلبات في المحافظ الاستثمارية؛ نظراً لكون متوسط الارتداد يشكل أحد العوامل غير المرتبطة بالزخم، والذي يسهم بدوره في حفز معظم التقييمات.
وتعدّ الإجابة على السؤال المتعلق بإمكانية الشراء من الأسواق الناشئة أكثر صعوبة، حيث يستند ذلك بالدرجة الأولى إلى مدى اقترابنا من نهاية دورة رفع أسعار الفائدة من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وفيما إذا كان الدولار الأمريكي قد وصل إلى ذروته السعرية أم لا. ولكن الأمر الأكثر أهمية على الأرجح يتمثل في أن الأسواق الناشئة يمكن أن تتأثر بتوقيت الانتعاش النسبي لأسواق الأصول الصينية.
وندرك بأنه عندما تتفوق توقعات النمو في الولايات المتحدة خلال الفترة الممتدة بين 6-12 شهراً القادمة على توقعات النمو في الصين، فإن ذلك قد يفضي إلى تنامي قوة الدولار الأمريكي استناداً إلى سياسة التشدد التي ينتهجها جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي؛ وبالتالي زيادة تكاليف التمويل بالنسبة إلى الأسواق الناشئة، والتي تعتمد بشكل كبير على مدى توافر الدولار الأمريكي لدعم الدافع الائتماني لديها. وقد شكلت هذه الضغوط إلى جانب تراجع معدلات النمو في الأسواق الناشئة المحرك الأساسي للأسواق خلال الأشهر الـ 18 الماضية.
من ناحية أخرى، فإن انتقال الفارق الدوري في قيادة النمو من الولايات المتحدة إلى الصين سيؤدي إلى تراجع سعر صرف الدولار، ما يسهم في توفير الدعم مجدداً على السلع والاقتصادات الناشئة باعتبارها تشكل محركات قوية تساعد في إعادة انطلاق الأسواق الناشئة واستعادة قدرتها على المنافسة.
وفي الوقت الراهن، نعتقد بأن الاقتصاد الأمريكي قد وصل إلى ذروة نموه، حيث ساعد التجميع التوسعي القوي للاقتطاعات الضريبية غير الممولة وإعادة رأس المال إلى موطنه الأصلي وعمليات الإنفاق المالي في دعم نمو الاقتصاد الأمريكي. ولكن هذه التأثيرات اللامعة ستتلاشى بنهاية العام الحالي؛ فقد بدأت علامات التوتر تظهر على سوق الإسكان الأمريكية، حيث أن ارتفاع التكاليف الهامشية لرأس المال (ولا سيما ارتفاع العوائد على القروض العقارية) قد بدأت فعلياً بالتأثير على معدلات النمو المستقبلية.
وبالرغم من أننا على ثقة تامة من وصول نمو الاقتصاد الأمريكي إلى ذروته، إلا أننا لسنا متأكدين من مدى سرعة استكمال الصين لعملية خفض ديونها، والبدء مجدداً بالتوسع بقوة أكبر.
وقد سبق لنا منذ فترة طويلة وأن أشرنا إلى أن تراجع الدافع الائتماني - أي تقليص معدلات ضخ التمويلات الائتمانية في الاقتصاد - يُنذر بحدوث التباطؤ الذي نشهده حالياً. ورغم الخطوات الثلاث التي اتخذتها الصين لخفض نسبة متطلبات الاحتياطي للبنوك وزيادة نسبة السيولة والإقراض، فإن النظام المصرفي الصيني لا يزال يتبع نهجاً دفاعياً. وتتمثل الخطة الشاملة التي اعتمدتها الصين في تقليص اقتصاد الظل عبر تحويل المخاطر من حيز سوق الإقراض نحو البنوك الرئيسية، وهي خطة لم تفلح حتى الآن في حفز معدلات الإقراض.
وبينما تتجه معدلات النمو في الولايات المتحدة والصين لأن تصبح أكثر تزامناً، فإن الحرب التجارية بين الجانبين ستؤدي إلى تفاقم المخاطر التي تهدد الاقتصاد العالمي. وبالمقارنة بين استراتيجية "أمريكا أولاً" التي طرحتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وخطة الصين لعام 2025، فإن كلا الاستراتيجيتين تسعيان إلى تحقيق مزيد من الاستقلال عن المنافسين، ما يؤدي إلى حدوث تراجع في مفهوم العولمة التجارية وتدفقات الأعمال وعمليات تبادل الأفكار وأفضل الممارسات. ولم يقتصر ذلك على توقف زخم تيار العولمة فحسب، وإنما أدى إلى اتخاذه منحى معاكساً على مدار هذا العام. ومع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة، فإننا لا نتوقع حدوث تراجع في نبرة الحرب الكلامية بين الجانبين، سواء في الوقت الراهن ولا حتى بعد الانتخابات التي ستحدث في شهر نوفمبر المقبل.
وتشكّل أصداء الخطاب المعادي للصين لدى كل من مؤيدي الرئيس ترامب والناخبين الديمقراطيين دليلاً مخيفاً على مخاطر إمكانية اندلاع حرب باردة جديدة تطال القطاعين التجاري والتقني. ويبدو الأمر كما لو أن الولايات المتحدة بحاجة إلى عدو جديد لتستبدل به عدوها القديم، ما يعد مؤشراً واضحاً على انعدام الأمن أكثر منه دليلاً على القوة.
وباختصار، يمكن القول بأننا قد نشهد قبل نهاية العام الحالي حدوث انتخابات جديدة في كل من المملكة المتحدة (ما يشكل فعلياً استفتاء ’بريكست‘ ثان)، وإيطاليا (ضد ميزانية الاتحاد الأوروبي)، والسويد (الافتقار إلى الحلول السياسية)، فضلاً عن اتساع نطاق الانقسامات حول السياسة الأمريكية.
ونستنتج من ذلك كله بأننا وصلنا الآن إلى مفترق طرق على مختلف الصعد: العولمة والأوضاع الجيوسياسية والاقتصادية. أما بالنسبة لفترة الأشهر الثلاثة المقبلة، فإن توقعاتنا تشير بأننا إما سنشهد تراجعاً في حدة التقلبات نتيجة لتخفيف مجلس الاحتياطي الفيدرالي لسياساته المتشددة، وإجراءات تسهيل ائتماني أكثر فاعلية في الصين، والتوصل إلى تسوية فيما يتعلق بميزانية الاتحاد الأوروبي؛ أو أن الوضع سيتجه نحو مزيد من التصعيد الذي سيطال الأصعدة الثلاث الذي ذكرناها آنفاً.
وأنا لا أرجح حدوث السيناريو الأخير خلال الربع الأخير من هذا العام، ولكنني على ثقة تامة بأنه لا تزال تفصلنا أشهر قليلة عن بداية دورة التيسير الجديدة استناداً إلى الحقائق المريرة، وليس إلى الآمال التي يعبر عنها السياسيون والتي تُجمع عليها غالبية الأسواق.
ولأول مرة منذ سنوات طويلة فإني أشعر بتفاؤل كبير حيال المستقبل، لأنني أعتقد بأن الأوضاع لن تصبح أسوأ مما هي عليه الآن. وبجميع الأحوال، من الأفضل لنا أن نتوخى الحذر.