لطالما كانت أعاظم الأمور بسيطة....باستثناء الآن!

السبت 09 سبتمبر 2017
ستين جاكوبسن- رئيس الاقتصاديين ورئيس شؤون المعلومات لدى 'ساكسو بنك'

بقلم ستين جاكوبسن، رئيس الاقتصاديين ورئيس شؤون المعلومات لدى 'ساكسو بنك'

”تتصف كل الأشياء العظيمة بالبساطة، ويمكن التعبير عن أهمّها بالكلمات التالية: الحرية، العدالة، الشرف، الواجب، الرحمة، الأمل". وينستون تشرشل

لنبدأ بما يعتبر بسيطاً الآن، وبما هو بسيط منذ بداية العام:

  • وصل الدولار الأمريكي إلى ذروة، ثم دخل دورة انخفاض تمتد لعدة سنوات بما أن النمو الأمريكي والعالمي بحاجة إلى تراجع لدولار، حيث أن الدولار القوي قد يعيق النمو في خدمة الديون والأسواق الناشئة والسلع.
  • يتسم كل شيء بالتقلّص حالياً: الواقع الديمغرافي، التكنولوجيا، الطاقة، وجبل الديون.
  • وصل الدافع الائتماني إلى ذروة أواخر 2016/مطلع 2017، ما زعزع النمو العالمي خلال الربع الأخير 2016 والربع الأول 2017.
  • أسعار الفائدة الأمريكية في طريقها إلى الصفر (0%) على صعيد الأرباح الحكومية بحلول 2018 ومطلع 2019.

أوّد وضع كلمة "بسيط" بين علامتي تنصيص كبيرتين، بما أنّه ليس ثمة شيء "بسيط" بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما المقصود هو تسليط الضوء على أن النقاط الواردة أعلاه كانت جلية طوال 2017 بعد أن تجاوزت السوق مخاوفها من قيام الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة اعتباراً من ديسمبر، وذلك لأنّه من المرجح للتضخم في الولايات المتحدة (وأوروبا) أن يبلغ 1% بدلاً من 2%، بالإضافة إلى حقيقة أن النمو ما زال دون مستوى التعافي العادي تاريخياً (ولو أنّه شهد ارتفاعات متقطعة هنا وهناك).

وفي هذه الأثناء ما زالت معظم البنوك المركزية، ومن جملتها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، تؤمن بنموذج "منحنى فليبس" الكلاسيكي، وبسلوكها هذا تضلل الأسواق بخصوص واقع التضخّم والنمو؛ حيث تتسم هذه الرؤية بطابع كلاسيكي بيروقراطي ودوغمائي محدود وعاجز عن مواكبة التغيرات التكنولوجية المتسارعة التي يشهدها عالمنا المعاصر.

لمحة جديدة: أسعار الطاقة في طريقها للهبوط بمقدار 50% على مدى الأعوام العشرة القادمة.

نقترح على المستثمرين – في إطار عملهم على إعداد موازنات 2017 واستعداداتهم لعام ـ2018- أن يأخذوا في عين الاعتبار بأن أسعار الطاقة ستنخفض بشكل مطرد مع تنامي التوجه لاعتماد السيارات الكهربائية، وهو توجه ستقوده الصين بالدرجة الأولى بما أن السيارات الكهربائية تمثّل حلاً فاعلاً لما تعانيه البلاد من تلوّث، وهو ما يجسّد "الأولوية الاجتماعية القصوى" من وجهة نظر بكين.

ونشير هنا إلى أن السيارات تستهلك 55% من إجمالي البترول والديزل في العالم، لذا نرى بأن إعلان ’فولفو‘ الأخير بمثابة مؤشر على نشوء معايير جديدة في القطاع، علماً بأن ’فولفو‘ مملوكة من قبل ’غيلي‘ (Geely) الصينية (إخلاء مسؤولية: تعتبر ’غيلي‘ من المساهمين في ’ساكسو بنك‘).

والآن بعد أن تناولنا أهم المواضيع الكليّة بعيدة المدى، ننتقل إلى تحليل الصورة قصيرة ومتوسطة المدى، والتي تتسم بكونها أكثر تعقيداً وإرباكاً بكثير..

ربما ليس في هذا الأمر أي مفاجأة، ولكن هذه العلاقة تؤكد بأنه حتى في حال نجاح سياسات ترامب، فإن ذلك سيسرّع من تراجع الدولار بدلاً من إبطائه.

وتعاني الولايات المتحدة حالياً من عجز متنامٍ في الحسابات الجارية، أي أنها تنفق مالاً أكثر مما تجني، وهو أمر أشار ترامب إلى ضرورة الحد منه، ولكن عند القيام بذلك يجب الإدراك بأن هذا الأمر سيؤدي إلى هبوط مستوى المعيشة الأمريكي كنتيجة لتصحيح عجز الحسابات الجارية.

وبعبارة أوضح، ستتراجع القدرة الإنفاقية بما أن إدارة العجز المالي أشبه ما تكون بأن يمد المرء ساقيه بما يفوق مساحة بساطه، بينما يكون الوضع بالعكس في حالة الفائض.

وفي بعض الأحيان قد تقف الحقائق والفهم الصحيح للأمور عائقاً في وجه السياسات، وفي حين ندرك بأن هذا الواقع ليس مفرحاً، إلّا أن الحساب الجاري هو أحد العناصر التي لا يمكن التلاعب بها، حيث تتم موازنته مع دولة أخرى على الطرف الآخر.

كما أن شعار ترامب "أمريكا أولاً" من شأنه إضعاف الإنتاجية، حيث أن مفهوم توفير فرص العمل فقط بهدف التوظيف المحض لا يضاهي (ولا ينافس) مبدأ توفير فرص العمل الإبداعية (اعذروني عن إيضاح ما هو واضح أصلاً!).

ومن الجلي بأن التكنولوجيا تمثل أحد القطاعات التي ما زالت الولايات المتحدة تحافظ على مكانة تنافسية فيها، ولكن الإشكالية تعزى جزئياً هنا إلى ترامب، وتكمن في واحدة من أبرز سياساته ورؤاه التي تقول بأن الصين هي "الطرف السيء"؛ إذ يبدو الرئيس الأمريكي عازماً على شن حرب تجارية ضد الصين، وهو ما سيجعل المستثمرين يتنبهون قريباً إلى سوء هذه الرؤية، لاسيما في ظل غياب أي حضور للتكنولوجيا الأمريكية في السوق الصينية.

في الوقت الراهن يبلغ تعداد سكان آسيا نحو 4 مليارات نسمة (شاملة شبه القارة الهندية)، وسيصل هذا الرقم إلى 5 مليارات نسمة بحلول 2050، أي سنكون أمام سوق تضم 5 ملايين إنسان دون أن يكون لكبريات الشركات الأمريكية (’فيسبوك‘، ’جوجل‘، ’أمازون‘) موطئ قدم فيها، أو مجرد حصة سوقية محدودة في أحسن أحوالها.

ونتمنى في هذه الحالة حظاً طيباً لمن يريد تسديد أرباح 30 عاماً لسهم واحد من ’أمازون‘ في ظل ظروف كهذه....

وبالحديث عن ’أمازون‘، لا بد لي من إدراج هذا الشكل البياني؛ فعند الاستماع إلى المتداولين الشباب على منصات ’ساكسو‘ يبدو لي بأنهم ميالين إلى نسيان أو تجاهل حقيقة بأن حركات البيع الشاملة بنسبة 30-50% لطالما كانت القاعدة وليس الاستثناء عند النظر إليها على مدى جيل كامل.

من أجل فهم مدى التدخل الذي شهده عاما 2008/2009 يجب النظر إلى مقدار التغيير (ROC)، كما تجدر الملاحظة بأن ميزانية الاحتياطي الفيدرالي لم تعد تقدّم الدعم للسوق، ولكن بالطبع تواصل هذه الأخيرة مضيها قدماً بفضل التحدّب السلبي والسعي لتحقيق الأرباح، وذلك عبر توسيع نسب الأسعار إلى الأرباح (P/E) وتحويلها إلى فقاعة.....في الوقت الراهن.

بنك كندا في طليعة "مكافحة الفقاعات"، وإعلان "وفاة" منحنى فيليبس (من قبلي!)

لعل أبرز التطورات اللافتة على صعيد البنوك المركزية يتمثّل في المنهجية الفردية التي يعتمدها بعض هذه البنوك للتعامل مع الواقع الحالي بشكل مستقل، كما هو حال بنك كندا الذي رفع أسعار فائدته مرتين حتى الآن دون الرجوع إلى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وذلك بهدف التعامل مع الفقاعة الإسكانية في البلاد.

لقد ارتفعت أسعار العقارات السكنية في كندا بنسبة 13% منذ بداية العام وحتى الآن، وسجلت ارتفاعاً بنسبة 200% منذ عام 2000، وهي حركة تم تمويل معظمها بالاستناد إلى إطفاء على مدى 25 سنة، مع تقسيمها إلى فترات خمسية (أي تتم إعادة تحديد الأسعار خلال فترات تمتد كل منها لـ5 أعوام).

والآن أصبحت أسعار الفائدة الكندية على مدى عامين أعلى من نظيرتها الأمريكية للمرة الأولى منذ فترة طويلة، مع وجود احتمال نسبته 65% بأن يقدم المركزي الكندي على رفع الفائدة مرة جديدة في ديسمبر ( و40% في أكتوبر). وخلاصة القول بأن المركزي الكندي يتعامل بشكل فاعل وواضح مع الفقاعات والفوائض، في حين يواصل الاحتياطي الفيدرالي والمركزي الأوروبي مراقبة الصلة الوهمية بين تضيّق أسواق العمل والتضّخم.

وقد أشارت ورقة عمل أصدرها الاحتياطي الفيدرالي في فيلادلفيا مؤخراً إلى حقيقة لافتة على صعيد سياسة البنك المركزي، حيث تبيّن بأنّه حتى موظفي الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لم يعثروا على ما يدعم وجود أي صلة بين التوظيف والتضخم.

من أي تنبع أهمية ذلك؟ السبب هو أن البنوك المركزية تعتمد في سياساتها على الأوراق الأكاديمية. وأذكّر هنا بأنني كنت قد نبّهت القرّاء لضرورة التركيز على التغيرات في إجماع البنوك المركزية على التسهيلات الكميّة، وذلك بناءً على أدلة كانت تشير بأن التسهيل الكمّي لا يتمتع بأي فعالية دون تحفيزات مالية.

وعلى نحو مشابه أتوقع لهذه الورقة أن تفضي إلى تغيير مماثل، حيث ستضع حداً للاعتماد على منحنيات فيلبس، وستفضي بدلاً من ذلك إلى التركيز على تأثيرات التكنولوجيا والواقع الديمغرافي وعبء المديونية.

لا تصدقوا ما تراه أعينكم؛ الاقتصاد العالمي يبرد

في ما يلي نستعرض مؤشر ’ساكسو بنك‘ لمراقبة الدافع الائتماني العالمي (الدافع الائتماني هو "مقدار تغيّر" الائتمان في السوق= سرعة الائتمان).

يسبق المؤشر السوق بنحو 9 إلى 12 شهراً، مع العلم بأن مدى التباطؤ الحالي يشابه التباطؤ الذي شهده عاما 2008/2009.

وقد يعترض البعض قائلين "هناك تحسّن في مؤشرات إدارة المشتريات والاستبيانات والبيانات!".، بالتأكيد ثمة تحسّن على هذا الصعيد، ولكن هذه جميعها مؤشرات متأخرة رغم أسمائها الجذّابة واستبياناتها اللافتة، وأنا أدعو بدلاً من ذلك لاعتبار أن كافة البيانات الاقتصادية وبيانات الأسعار لها أمواجها الجيبية الخاصّة.

تتحرك هذه المنحنيات الجيبية (نقاط البيانات) إلى الأمام، وسيكون لها ذروات وقيعان مختلفة، غير أن الوضع يصبح لافتاً للانتباه عند وصولها جميعاً إلى قاع أو ذروة في آن معاً. ويشير نموذجنا للدافع الائتماني إلى أنّه ثمة احتمال مرتفع لحدوث تباطؤ كبير في الاقتصاد العالمي بعد 9 إلى 12 شهراً على الذروة التي شهدها الربع الأخير 2016، أي خلال الفترة الممتدة من أكتوبر 2017 إلى مارس 2018.

كما أود التذكير بأن البيانات الاقتصادية الحالية تم إعدادها قبل 9 أشهر من الآن بالاعتماد على الواقع الائتماني والأسعار الائتمانية وأسعار الطاقة التي أعقبت انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة. وجاءت ذروة النشاط التي تم تسجيلها خلال الربع الأخير 2016 والربع الأول 2017 كنتيجة لموجة الائتمان الجديد الكبيرة التي أعقبت أسوأ بداية لأي ربع أول في التاريخ الحديث (والتي دفعت بالمركزي الأوروبي والصين إلى تجميد كافة أنشطة تقديم الائتمان بشكل كامل).

وتتزامن هذه الدعوة إلى الإبطاء مع العديد من المستجدات؛ إذ سينتهي برنامج التسهيلات الكميّة الأوروبي مع نهاية2017، وفي أحسن الأحوال سيتم تخفيضه بمقدار 10 مليار يورو خلال اجتماع المركزي الأوروبي في 2018. أمّا الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، فسيعمد إلى التضييق الكمّي إثر إعلانه عن نفاذ ميزانيته. وبشكل عام تشير كافة المعطيات الحالية إلى تضييق ملحوظ بحلول منتصف 2018.

وبما أن السوق متأخرة دوماً عن الحقائق كما أشرنا أعلاه، فإننا نعيش التباطؤ الآن، وهو ما ينعكس على الواقع السياسي، حيث نشاهد ارتفاعاً متواصلاً في المخاطر الجيوسياسية، ويبدو ترامب منذ الآن كما لو أنه "بطة عرجاء" (أي في السنة الأخيرة من ولايته الرئاسية)، فيما يتواصل تعاظم جبل الديون بالتوازي مع ازدياد العجز في السداد بحكم التضخم "المنخفض للغاية".

نحن أمام خلطة خطيرة من العناصر، ولاسيما عندما نأخذ في الحسبان المستوى العالي من التحدّب والبيئة منخفضة التقلبات في الوقت الراهن.

توزيع الأصول

ما زالت نسب التوزيع على حالها منذ الربع الأول 2017 (نعتمد منهجية "المحفظة الدائمة"):

  • الملكية: 25% (بالنسبة إلى الزخم)
  • الدخل الثابت: 50%
  • السلع: 25% (التركيز على الذهب والفضة)
  • النقد: صفر

قمنا مؤخراً بتخفيض بعض المخاطر، وهي تبدو على النحو التالي الآن:

  • الملكية: 10% (أسهم تعدين الذهب بشكل رئيسي)
  • الدخل الثابت: 25% (وزن محايد)
  • السلع: 25% (وزن محايد)
  • النقد: 40% (وزن زائد)

بالتأكيد يعتبر وزن النقد "عالياً جداً"، ولكننا ننتظر حتى انقضاء شهر سبتمبر والربع الأخير لنرى المنحى الذي سيسلكه الدافع الائتماني، مع الإشارة إلى أن العام الحالي كان جيداً جداً بالنسبة للمستثمرين، وكما قال جيه بي مورغان عند سؤاله عن كيفية بنائه لثروته: "لقد جنيت أرباحي مبكراً جداً".

في الخلاصة

تقصدّتُ عدم التطرّق إلى ما يلي: الشأن الكوري الشمالي (وأرى بأن التصعيد العسكري قادم لا محالة)؛ وقيام المركزي الأوروبي بخفض التسهيل الكمي (والذي سيكون بطيئاً إن وجد)؛ والضجيج الذي أحدثه الاحتياطي الفيدرالي بخصوص جاري كون، وستانلي فيشر، وافتقاره إلى مجلس إدارة؛ والانتخابات الألمانية (التي تمثّل تطوراً هامّاً دون اعتبارها حدثاً بحد ذاته)؛ وترامب  ("البطة العرجاء" منذ الآن)، وبدلاً من ذلك آثرتُ التركيز على ما أراه عناصر مؤثرة في السوق بشكل فعلي.

  • سعر الائتمان: يرتفع بسبب الأخطاء في السياسات (انظر: منحنيات فيلبس)
  • كمية الائتمان: آخذة في الانهيار
  • الطاقة: تبدي توجهاً هابطاً بشكل واضح جداً، مع تحديد مدخلات التضخّم والتوجهات بناءً على التغيرات من عام إلى آخر.

استعدوا إذاً وأعدّوا محافظكم لمزيد من التراجع في المحافظ الحكومية، واستواء منحنيات الأرباح (بسبب سوء أداء القطاع المالي)، مع توقعات بأن تبلغ إيرادات الأسهم 2-3% سنوياً في أحسن أحوالها وفي الظروف المواتية، بالمقارنة مع النسبة التاريخية البالغة 9-10%.

وهنا يستحضرني قول جون بوغل، مؤسس شركة ’فانغارد‘ (Vanguard)، عندما سُئل عن أهم درس تعلّمه خلال العقود الستّة التي أمضاها في قطاع الأعمال، حيث أجاب: "العودة إلى الوسط".

ما هو مزدهر اليوم ليس بالضرورة أن يحافظ على ازدهاره غداً، ولطالما عادت سوق الأسهم إلى إيراداتها الأساسية على المدى الطويل.

هل الأمر بسيط؟ ليس بسيطاً أبداً، فنحن نبتعد أكثر فأكثر عن البساطة التي تجسّدها خمسة من كلمات تشرشل الشهيرة:

نبتعد عن "الحرية" سواء على صعيد الأسواق أو على صعيد الحقوق الفردية.

نبتعد عن "العدالة" بحكم تعاظم قوة الشركات الاحتكارية وتراجع معدلات التكافؤ في الفرص.

نبتعد عن "الشرف" مع ما نشهده من تلاشٍ لمبادئ الاحترام المتبادل والأخلاقيات العامة.

نبتعد عن "الواجب" بما أن البيئة الراهنة تعاقب من يتمسكون بالاتفاقيات المبرمة، وتعرقل من يسعى لإحداث التغييرات المطلوبة. وليس هذا فحسب، بل تعاقب أيضاً من يقبل الفشل أو يتعامل معه برحمة.

وفي النهاية لم يبقى لدينا سوى الكلمة الأخيرة: "الأمل"

أخبار مرتبطة